تُرى ما الذي يميّز فاشية موسوليني ونازية هتلر عن شيوعية ستالين، هل يُمكن أن تنضوي ثلاثتها تحت عنوان الدولة الشمولية؟ لن ندخل في التفاصيل لئلّا نتوه فيها، طالما أنها ترتدُّ كلّها إلى تلك النزعة التسلّطية، فالطغيان بلا حدود، ومهما طرأ عليه من تحديث، حسب الظروف والجشع البشري وما حقّقته وسائل العصر في ترسيخه من خلال الأقنعة، لن يخلق التنويع فارقاً كبيراً، هذا إذا عُدنا إلى طغاة التاريخ أيضاً، فالجذر واحد.

يهمّنا حالياً، عصرُنا الذي بلغ من النضج حدّاً انعكس فيه التقدّم الذي أحرزته الإنسانية على ما بلغته الديكتاتوريات من عنف وعسف، مع الاتفاق على النظر إليها على أنّها ظاهرة غير طبيعية غير جديرة بالإنسانية، ودليل على أنّ البشرية لم تبلغ سنّ الرُّشد بعد، وينبغي عليها التخلّص منه. فليس من المعقول أن تتحكّم بالبشر نزعات تسلّطية بدائية بالمقارنة مع ما بلغه القانون من شأوٍ كبير إلى حدِّ الاعتقاد، ولو كنّا مخدوعين، بأنه بات سائداً في العالم، لكن لا بد من إدراك أن للديكتاتوريات قوانينها المُعلنة غير السرّية، وإن كانت تبدو لنا غير مفهومة ولا عقلانية.
تتمتّع الدولة الشمولية بواجهة صلبة وكتيمة، لا تحجبها عن النظر كلّية، وإن كانت تبدو كأُحجية، فقد يُساعد الفنّ على تفسيرها، ما يحيلها إلى قصّة تمثيل بحتة، سواء كان التمثيل المسرحي أو السينمائي، وإنْ سنقتصر في هذا التشبيه على المسرح، باعتبار أنّ الممثّل الأوّل المهيمن في المسرحية اغتصب العرض، بموجب زعم إلهي، أو ديني، أو أيديولوجي، أو قومي، أو لمجرّد الوراثة، بينما هو مجرّد ممثّل، لا يمثّل أحداً من المتفرّجين في الصالة ولا خارجها، وإذا استحوذ على خشبة المسرح، فهو يؤدّي النص الذي بات متعارفاً على أنه أُعدّ لاستخدام الطُّغاة، وهو تمثيل في تمثيل، والمفترض بعد إسدال الستار، أن يعود شخصاً عادياً، لكنه لا يخلع عنه هذا الدور، ليس كنوع من التمرّد، وإنما كحقّ له، خاصّة أنّ حوله “كومبارس” لا يتخلّون عن أدوارهم، ويؤيّدونه بعدم خلع ملابسهم.

حسب زعمهم، التمثيلية لم تنته، هناك أعداء ينبغي القضاء عليهم، عادة من المتفرّجين، طالما العمل جارٍ على الاستمرار بتمثيل نصٍّ ليس إلى انتهاء، يؤدّي دور البطولة فيه ممثّل خالد، وممثّلون موعودون بالبقاء في مناصبهم.

يعيد الممثّل دائماً تمثيل دور فتى المسرح، مهما كان مقيتاً، في نصٍّ يعمل على تأبيده، كحقيقة وحيدة، ليس هناك غيرها، لجمهور يخضع لعدوى التصفيق، وإلّا انتزع من كرسيّه، وطُرد من الصالة، وفي حال أظهروا الغضب، تتحدّد مصائرهم بإرسالهم إلى الواقع، إذ يصبح المسرح هو العيش، وخارجه هو الموت.

لا بدّ من صدمة لئلا يظلّ المتفرّجون أسرى الوهم

وبما أنّ المسرحية هي نصٌّ في الأصل، ألا يحقّ للنقد التدخّل في حال انحراف الممثّل عنه، أو كان غير مُقنِع، وربما للمبالغة في الأداء؟ لا يمكن قيام أي اعتبار للنقد، ولنفهم ما النقد، فهو ما يُدعى بحرّية الرأي والتعبير، وهو ما ستتكفّل آلية القمع بإخماده. إنها ماكينة يمثّلها الجيش والأجهزة الأمنية وحزب أشبه بالمخابرات. كلّ هذا لتكريس صورة الممثّل الأوّل والأوحد الذي لا ينازعه على المسرح حتى أقرب المقرّبين أو البطانة السيِّئة، ومعهم الضبّاط الكبار والمسؤولون الكبار والمخبرون والجلّادون، هؤلاء أدواته الفاعلة والفعّالة.

يحرص الممثّل الأكبر، الأوّل والأوحد، على إدارة هذه الأدوات، وابتداع صراعاتها، والتحريض على التنافس بينها، وما إخلاصها له سوى ما تُبديه من شدّة ووحشية في التنفيذ، والحرص على الإشراف عليها، ليس في ضبط سلوكها، وإنما الخشية من توحّدها، فقد تنظّم قواها لقلبِ خشبة المسرح عاليها سافلها، وبهذا يحلّ ممثّلٌ أوحد بدلاً من الذي رحل، يُعيد التمثيلية من جديد.

لا يزيد التسلّط في جوهره عن تمثيل، ولا يعوزه الكثير من المهارة، حتى رداءة التمثيل تستحقُّ الإشادة، كما أنّ الممثّلين الصغار تافهون، أدوارهم لا تتستّر على تفاهتهم. إنّ كلّ ما يُحيط بالعَرْض ليس غائباً عن لعبة الإيهام في العرض التمثيلي. أمّا العرض الحقيقي، فيجري وراء الستار، في الكواليس، وما يحدث أمام الجمهور، يبدو مقنعاً، بجهود دوائر الدعاية من إعلان ولافتات وخطابات وصُور، ضرورة لتسويق الممثّل، لكن الحاجة أكبر إلى حمقى مؤمنين به على أنّه حقيقة مطلقة. لا بدّ من صدمة الواقع مهما كانت تكاليفها، لئلا يبقى المتفرّجون أسرى أوهام المسرح.