أعلن اختصاصيو الأدب في اتحادات الكتّاب العرب، منذ بداية الاحتجاجات في البلدان العربية، حتى إلى ما بعد قمعها إلى عدم الأخذ بما يجري تحت سمعنا وبصرنا، بدعوى أنها فترة اضطرابات وعصيان غير مسؤول، لا يمكن الوثوق بها، وأن الحقائق سوف تظهر فيما بعد. بالتالي، نحن حالياً أمام لغز يستعصي تفكيكه، وما نجهله أكثر بكثير مما نعرفه، ومن قصر النظر الاقتراب منه، إلا بعد وضع نقطة النهاية.
إن بُعد النظر يتطلّب التفكير بالحدث الذي نعيشه، ليس بمقياس اليوم، وإنما بمقياس الفترات التاريخية المديدة، التي لا تقاس بالسنوات، بل بالقرون، وربّما لا أهمية للربيع العربي في أحداث التاريخ الكبرى، فلا حاجة للتورّط بالكتابة عنه، خاصّة أنه يقع في منطقة من العالم غير مؤثرة، وقد لا يجد له مكاناً في تاريخ التحوّلات العاصفة، إذ لا شيء تحوّل، وسينطوي في الماضي مثلما انطوى غيره.
الكثير من الحوادث التاريخية لم يُتطرق إليها، تُركت لمصادفات البحث التاريخي، وثمّة نصائح تُسدى من خبراء النزاعات القديمة: دعوا التاريخ نائماً، لا توقظوه؛ التاريخ يحرّض الفتن، ويجدّد حروباً ومآسي. ولا مبالغة إذا تصوّرنا أن التاريخ يمتلئ بالقبور مجهولة الأحداث والضحايا.
” لا ضمانة في ألا يدفن هذا الربيع بين الفصول المدلهمة”
الخلاصة، في وسع الأدب الانتظار، ليس حاله كحال الغوص في السياسة، عمل المحللين السياسيين لا يزيد عن كتابة المقالات السياسية، والتعبير عن مواقف ملتبسة، أغلبها لا جدوى منها، ويمكن التسامح مع شططهم، لارتزاقهم من سياسات تتبدّل حسب كرم الأنظمة وتدخّلات الدول الكبرى، لكن ما يغتفر لهم لا يغتفر للأدب، لذلك ينصح بالتريث بضعة عقود أخرى، هذا إذا لم تعقب هذه الحرب حرب ثانية وثالثة… كما يجب مراعاة ضرورات عدم غياب الفن، والطبيعي ألا يحوز الأدب على جواز المرور إلا بصعوبة، ما دام أنه سيمرّ عبر السياسة، فالمعروف عن الفن عداوته للسياسة.
وبالنسبة إلى كتابة الرواية على سبيل المثال، لا يجوز التفكير فيها، إلا بعد كتابة تاريخ هذه الفترة العاصفة، وظهور وثائق وعملاء، وانكشاف مباحثات ومؤامرات وقنوات سرية ولقاءات جرت خفية في ظلام كواليس السياسات الدولية. الأغلب ألا يكون للجيل الذي بقي على قيد الحياة، بعدما شهد أحداثاً مهمة كتابتها، إنه مجرّد متفرّج، وشاهد على طرف منها.
وهكذا لا ضمانة في ألا يدفن هذا الربيع بين الفصول المدلهمة، في حين لا يُخفى سعي الأنظمة جاهدة إلى إلغائه، كأنه لم يكن. والمثال السوري حاضر، في إتاحة الفرصة للنظام في تصدير رواية وحيدة هي الحرب ضد الإرهاب. طبعاً لا ثورة ولا شعب، لا مخابرات، ولا نظام دكتاتوري، لا حرية ولا كرامة، لا سجون ولا معتقلات، لا شبيحة ولا إيرانيين، ولا حزب الله، ولا روس ولا بوتين…. ولا عائلة تتوارث الشعب والأرض.
هذا في ضرورة أن نكتب نحن روايتنا.
-
المصدر :
- العربي الجديد