في يوم 24 أيلول من عام 1944، موعد حفلة أم كلثوم الشهرية: حضر جلالة الملك فاروق الأول المعظم إلى النادي الأهلي في القاهرة وأنعم على الآنسة المهذبة أم كلثوم بنيشان الكمال المصري؛ وفيها غنت «أنا في انتظارك» ثم «يا ليلة العيد آنستينا» وبعدهما الكوبليه الأخير من «حبيبي يسعد أوقاته». قوطعت عدة مرات بهتاف: عاش فاروق ملك مصر والسودان. وعندما وصلت في غنائها إلى «والليلة عيد على الدنيا سعيد» أكملتها بـ«عز وتمجيد ليك يا مليكي» ثم اختتمت أغنيتها بـ«وانت مليكي» بدلاً من «وانت حبيبي».

كانت أم كلثوم قد تربعت على عرش الغناء، لكن مع مجيء ثورة يوليو 1952، اهتز عرشها، صدر أمر بمنع بث أغانيها من إذاعة القاهرة، لكن عبد الناصر ألغاه، لم يأخذ عليها النعم التي حباها بها الملك والأمراء والأميرات والباشوات. أعطى الأفضلية للفن العظيم، وشبه مطربته المفضلة بالشمس والنيل والأهرام. انحازت أم كلثوم للثورة، وغنت للشعب ولبطل الثورة.

تلاحقت الانتصارات، جلاء الانجليز عن مصر، ارفع رأسك يا اخي فقد انتهى عهد الاستعمار، اخفاق العدوان الثلاثي، شعارات العدالة الاجتماعية، تصاعد المد القومي، رفع أعلام الوحدة العربية، انتشار الثورات في العالم العربي… مع وقوع كارثة حزيران، بدا وكأن الثورة أنهت أعمالها وأهازيجها. مرت الحرب كالصاعقة، وخلفت وراءها بعد ستة أيام، أراض محتلة، غزة وسيناء، الجيش الإسرائيلي اتخذ مواقعه على الضفة الشرقية لقناة السويس، وواصل توغله في مرتفعات الجولان والضفة الغربية. أوقعت الحرب آلاف القتلى، وعشرات آلاف الأسرى والجرحى، وقوافل من العسكر التائهين في الصحراء بلا زاد ولا ماء، ودبابات مهشمة في العراء، وطائرات محطمة على مدرجاتها.

نكسة كبرى، كادت أن تكون القاضية، لكن الرئيس الجريح المثقل بالهزيمة والكرامة، تماسك وأعلن: الحرب لم تنته، ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. وباشر من فوره، مرحلة الإصلاحات الجذرية، والاستعداد لإزالة آثار النكسة. فكانت حرب الاستنزاف.

تحت وطأة الحرب اليومية، وزخم المراجعة الشاملة والقاسية، تعالت الانتقادات قوية وعاتية. طاولت الاتهامات قيادات عسكرية ومسؤولين ووزراء بأسمائهم. لم تتخلف الثقافة عن تنظيف مسرح المعركة القادمة، أسهم المثقفون باتهام أم كلثوم بأنها سبب أسباب هزيمة حزيران. سرعان ما شرعوا بإجراءات محاكمتها في الصحف؛ قضاتها: المفكرون والكتاب اليساريون، على امتداد الوطن العربي الكبير والمهزوم؛ مساحة كانت على اتساع شهرتها، وبحجم لقبها سيدة الغناء العربي. الاتهام، أو التهم: تثبيط الغليان الثوري، إجهاض الروح القومية، العبث بالوجدان العربي. تتلخص بشكل أكثر تركيزاً بأنها مثل الجهل والفقر والمرض؛ رمز من رموز التخلف. والدليل، أو الأدلة: الصوت المشعوذ، والموسيقا المترهلة اللزجة؛ مزيج نجم عنه خَدَرٌ أصاب الشعب العربي بالتواكل والتهويم في أمجاد ماضٍ موهوم، والعودة إلى القديم والسبات في التليد: سلطنةُ طربٍ مهدت، إن لم تكن أثمرت، سلطنة الكارثة.

دون أن تشفع لها «والله زمان يا سلاحي» أو تصميمها «راجعين بقوة السلاح» أو حتى اللغة اليسارية نفسها «ثوار ولآخر مدى ثوار».

لم يجد مثقفو البعث اليساريون ومعهم الشيوعيون الغاضبون في ذلك الوقت، سوى أم كلثوم فحملوها عبء الانهيار الشامل على الجبهات الثلاث، وكان عليها أن تغادر مسرح النهوض العربي مشيعة بألقابها الجديدة، الرجعية الانهزامية المتخاذلة، ليس قبل إصدار قرار بحرمانها من الفن والإخلاص والمجد. القرار سطره الشامتون، المنتصرون بهزيمتهم، فيما كانوا يتقدمون ظافرين إلى المستقبل الظافر.

نَكَّسَتِ النكسةُ رأس أم كلثوم، فاعتزلت الغناء، غير أن الذي آذاها أكثر، كان ثوريو النكسة. لكن المرأة التي عقدت حلفاً مع مصر الثورة، في مستقبل واحد ومصير واحد، لا ينفصمان. حزمت أمرها وهدر صوتها، كما السيل الجارف، ساحراً وعظيماً؛ وعندما صدحت بـأغنيتها “الأطلال” اكتست “أعطني حريتي أطلق يدي” معنى التصميم على التحرير ومواصلة النضال.

صوت أم كلثوم مثلما منح الناس الحب، منحهم شيئاً أكبر من الأمل؛ الفن الذي لا يموت، الحامل المثابر للثورة والتغيير. أما اليساريون الأشاوس، ومن التحق بهم فقد منحونا الديكتاتوريات والسجون والمعتقلات والتعذيب حتى الموت، وقتل الشعب الذي مجدوه حتى الافناء.

هذه المقالة مدينة لروايتي “مرسال الغرام”. أما النبرة النضالية فلذلك الزمان، ولا يعني هذا أنها لم تكن حقيقية.