يعمل الإسرائيليّون على إدارة مستقبل المنطقة، وكأنهم يكتبون سيناريو سينمائياً، فالمستقبل صناعة رابحة، خاصة أن أميركا تأخذ تمويلها على عاتقها، تلتحق بها ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، مقابل المشاركة باستثماره عن طريق “إسرائيل” لتأمين مصالحهم. العرب ليسوا ضمانة، لم ينضجوا بعد، ما زالوا يرتعون في دكتاتوريّاتهم، يسبح بعضهم في بحر من النفط، وآخرون في مستنقع الفقر، لا يُوثق بهم، إذا استطاعوا إقامة ديمقراطيات، قد تَعي مصالحها، وبالضرورة ستكون ضدّهم على وجه اليقين.
“إسرائيل” مطمئنّة إلى أن بوسعها التحكُّم بالمستقبل، طالما الماضي قد أغلق على ما أرادوه، انتهى باقتناص دولة وهزيمة العرب في حربَين، ساعدهم “العالم الحرّ” في كلّ خطوة. هذا كلّه أصبح من الماضي، ولا تفكير فيه. جاء دور المستقبل، لا وجود للفلسطينيّين فيه طبقاً لحساباتهم؛ أصبحوا من الماضي. أمّا الحاضر، فليس أكثر من متابعة مسلسل قديم، حلقاته الأخيرة ستتوالى بالتدريج، خلال عدّة سنوات، إن لم يرحلوا وحدهم، سيُهجّرون بالقوّة إلى الصحارى القريبة. لا عقبات جدّية، العرب بدأوا بالتخلّي عنهم خِفيَة، من دون إعلان.
لم يتهيّأ الإسرائيليون للمستقبل، مؤخّراً، ولم يستعدُّوا له، إلّا لأنه كان مُقبلاً على عجَل، حتى إنه سبَق السيناريو المُعَدّ سلفاً. العرب يتسارعون للتطبيع معهم، سبقته ضغوطٌ ومحاولات أميركية وأوروبية بدعاوى التنمية الاقتصادية لا تخلو من واقعية، لم تُعكّرها حقوق الفلسطينيّين، بات الإعداد لنهضة العالَم العربي على الأبواب، واحة سلام دائم، تحت وصاية “إسرائيل” رجُل أميركا في المنطقة، لماذا؟ لأنه في المنطقة نفسها.
7 أكتوبر جعل ردّة فعل الغرب تفوق الخيال في هستيريّتها
أحسنَ الغرب صُنعاً، قدّم لهذا الشرق الغارق في الجهل والنفط، دولة ديمقراطية حقّقت أكبر تقدُّم اقتصادي في العالَم مِن لا شيء، أنموذج يجب احتذاؤه، يُمثّل خريطة طريق إلى “الحضارة”.
أما أن يكون الفلسطينيون وحيدِين، فهذا قدرُهم. ولن يؤثّر في الأمان الإسرائيلي المُبارك من العالَم الغربي، والضامن له طوال خمسة وسبعين عاماً، وما زال؟ لم يعُد أمام المستقبل الذي جاء مبكّراً، إلّا الاستعجال بخطوات، لا تقلُّ عن سحب الأرض من تحت أقدام الفلسطينيّين، والبدء بالضغط عليهم من أجل تهجيرهم.
لم تكن مجرّد خطّة، إلّا إذا أردنا تشبيهها بها، كانت مؤامرة عَلنية والأطراف لا يُخفون جهودهم، ستمضي على ما يُرام بمساندة التطبيع، ما يساعد على قضم الأراضي بسرعة، مع أساليب مختلفة من القتل تُعالج بالقنص والدبّابات والاعتقالات، وأحكام بالسجن تزيد عن مؤبّد واحد، ما يكسر أي احتجاج أو تمرّد أو مقاومة. لا قانون يقيّدهم، ولا اعتراض من الرأي العالمي، إنه لا يعرف، وإن كانت حكومات العالم تعرف. عملية متكاملة يرافقها الكتمان.
الغرب الهستيري يعتبر قتل الأطفال “دفاعاً عن النفس”
لا يأتي التأييد الغربي من فراغ، هذا تاريخ علاقتهم معهم، إلى حين تجذّرت “إسرائيل”، حسب اعتقادهم في الشرق الأوسط، وأصبحت “صديقة” للعرب، حتى إن بعضهم أخذ يستنجد بها ضدّ إيران، التي أصبحت عدوّتهم الوحيدة. والعرب المساكين، كأنهم لا يعرفون أنه قد أصبح لديهم عدوَّان لا يقلّ أحدهما شراسة عن الآخر.
“إسرائيل” في أمان، لم يبق إلّا بعض التفاصيل الصغيرة للتخلّص من أهالي غزة والضفّة الغربية. بالنسبة للغرب هذا هو الحلّ المثالي للمشكلة الإنسانية الإسرائيلية التي حملوها على عاتقهم تكفيراً لهُم عن جريمة “الهولوكوست”، لن تؤنّبهم ضمائرهم بعد اليوم، حقوق الإنسان الإسرائيلي مُصانة في أرض ووطن بلا حدود.
هذا السيناريو، لم يكن مُحكَماً بما فيه الكفاية، ففي الوقت الذي بدا أنّ القضية الفلسطينية قد دُفنت، جاء انتصار المقاومة الساحق على الآلة العسكرية الإسرائيلية، مُدمِّراً للمخطّط الذي كان ماضياً بيُسر نحو التحقُّق خلال عدّة سنوات، ستسمح به الظروف الدولية المساعدة دائماً. انتصار المقاومة في الواقع لم يكُن أكثر من بضع ساعات، بعدها بات على غزة تحمُّل الضربات الهمجية للسلاح الإسرائيلي.
بيد أنه كان انتصاراً حقيقياً، قلَب مخطّطات وخُطط وسيناريوهات المستقبل الإسرائيلي، ما جعل ردّة فعل الغرب تفوق الخيال في هستيريّتها. فمنذ اللحظات الأولى، وفّر لـ”إسرائيل” الضوء الأخضر لعربدتها الوحشية، بعدها لم تتوقّف الهستريا عن التفاعُل والتصاعُد على جميع المستويات. تجاهلوا قتل الآلاف من المدنيّين أغلبهم من النساء والأطفال، وأَبعدوا المُراسلين عن غزة، كي يُقتل الفلسطينيون بعيداً عن الكاميرات، ما دام أنهم ليسوا إسرائيليّين.
وبادروا في وسائل الإعلام لمنع أي نقاش حرّ، لتأكيد أن حركة حماس منظّمة إرهابية، ونفي أنها حركة تحرير وطني، ثم في محاولاتهم الدائمة لانتزاع اعتراف بإدانة أية مقاومة سِلمية أو مسلّحة، واعتبار قتل عشرين ألف إنسان أغلبهم من الأطفال، “دفاعاً عن النفس”. أمّا الدمار الهائل لغزة، وقطع الكهرباء والدواء والوقود والإنترنت، فهذه من طبائع الحروب، من دون أية مراعاة بنود “اتفاقيات جنيف” التي تتناول حماية حقوق الإنسان في حالة الحرب.
ما فعله الغرب لم يُكن جديداً، استمدّه من تاريخه، فاستعاد الرجل الأبيض البشع، ما يشهد بعودة المفاهيم الاستعمارية، التي “أنعمت” بالحضارة على البلدان المستعمَرة، فنهبت ثرواتها، ولقّتنها حدود ما تُفكّر فيه، ولا تتجاوزه. وربّما لأول مرّة يظهر دعم الشركات الكبرى بالتدافُع نحو الاصطفاف دفعة واحدة إلى جانب “إسرائيل”، كمبادرة تأييد مُطلقة، يحبّذها النظر إلى “إسرائيل” كضامن لاستثماراتهم في المنطقة، واعتبار العرب مجرّد مستهلكين لصناعاتهم ووسائل الترفيه والمقاهي والمطاعم… ومصدرا لأرباحهم.
هذه هي حضارة الرجل الأبيض البشع، التي تسمح بالاستيلاء على الأرض، وقتل السكّان الأصليّين أو تشريدهم، إن لم يُذعنوا لطردهم. فالفلسطينيون أرقام زائدة، والعرب عبارة عن قطيع من البشر قابلٌ للاستغلال!
لن نُخطئ عند النظر إلى اجتماعات حكومة الاحتلال لنرى عيّنة من الأمراض المُستعصية بالرجل الأبيض البشع؛ مجموعة من الزُّعران يمثّلون طُغمة من الأشرار، لا تخفى العُقد النفسيّة المُستحكِمة بهم؛ العجرفة والغطرسة والحقد وجنون العَظَمة وعنجهية تنحدر إلى حدود التفاهة.
أما عند قادة الدول الكبرى، فيُبدي المرض أعراضاً مُريبة، يبلغ بها الانحطاط في التحيز حدود التشبُّث الأعمى بما هو مجرّد أكاذيب.
-
المصدر :
- العربي الجديد