لا شك في أن خيارات العمل الروائي متعددة في الغرب، نظراً إلى العوالم التي يرتادها، بينما هي محدودة في الروايات العربية، هل لأن الرواية العربية تتعامل مع مجتمعات عوالمها محدودة؟ بالعكس، تتميز مجتمعاتنا العربية بتنوعها، وربما كانت من أكثر المجتمعات التي تحتوي على تشكيلات يصعب حصرها من ناحية تشابكها وتناقضها وامتدادها في التاريخ. والمؤسف أن الرواية العربية، تضع نفسها كل فترة من الزمن في مأزق، لا تسعى إلى الخروج منه، بقدر ما تنحو إلى الاستنقاع فيه.
في الرواية الغربية، بالنظر إلى أبطالها، تصادفنا شخصيات مرموقة أشهر من رواياتها، ومع الزمن باتت تُعرِّف بمؤلفيها، ويجري الاستشهاد بها في حقل الدراسات النقدية: مدام بوفاري، جوزيف ك راسكولينكوف، الأمير ميشكين، هانز كاستروب، شيرلوك هولمز… قائمة طويلة جذابة تعين الروائيين على محاكاة نماذج لا تشيخ وتتحدى الزمن، تحت لبوس عصري، أضيف إليها أبطال للبيئة وعباقرة للانترنت وممثلون موهوبون ومصممون للأزياء، يسجلون نجاحات تتلقفها السينما قبل الرواية، يقدمون حياة تختلق أبطالها، لا تخلو من ثوريين، أصبحوا مصدر قلق للسلطات بأنواعها الديموقراطية والمتخلفة، على نمط حداثي كصاحب تسريبات الويكيليكس.
في الرواية العربية، كان الثوري المحترف، بطلاً في مرحلة المد القومي واليساري، ولقد استدعت المرحلة نفسها إفساح المجال للقروي القادم إلى المدينة والناقم عليها والعاشق الرومانسي الذي يستعذب آلام الحب. خلالها ظهر الموظف المصري والانتهازي الوصولي في روايات نجيب محفوظ، وأيضاً شخصيات أخرى أسهم فيها اليسار: المثقف الوطني، العامل المستَغل والفلاح المهضوم الحقوق، والأغنياء المتبجحين…الخ. لكنها لم تجتذب قراء أوفياء لها، وربما كان أحد أسباب أزمة القراءة، قدرة المسلسلات التلفزيونية على اجتذاب الجمهور، مع أنها الأكثر خواء.
في العقد الأخير، أقتحم الرواية العربية الكثير من الكتّاب، شعراء هجروا القصيدة إلى الرواية، وصحافيون وجدوا في الرواية مجالاً يشبه التحقيق الصحافي، فكانوا الأولى بها، وأناس لديهم من الذكريات ما يسمح لهم بالكتابة عنها في قالب روائي، أو وجدوا في الرواية ما يحفزهم على الكتابة عن تجاربهم، ولا ينقصهم الخيال ليردموا ثغراتها وضعف حبكتها. ونساء لديهن وجهة نظر مضادة للتسلط الذكوري مع دافع قوي للذود عن جنسهن… ما بعث الحيوية في المشهد الروائي، من خلال رواية، تبدو وكأنها قصة شخصية، تعتني بحيوات بشر هامشيين، يعيشون في بيئات مهمشة… يروي فيها الكاتب حكاية يوهم أنه عاشها، تسعى إلى الحلول محل روايات اتهمت بالترهل والسطحية، وعدم امتلاكها الجرأة على الخوض في الهامش.
هذا السعي لم يفتح عوالم جديدة، بقدر ما حدها وجعلها تقتصر على أنواع محددة، بحيث بدا وكأن طائفة من الكتاب والكاتبات، يكتبون الرواية نفسها مع بعض التنويعات من كاتب لآخر. مقياس جودتها الامتثال لنمط لا يجوز الخروج عنه. وبدت من فرط انهماكها بمقولاتها، تبشر برواية صاعدة، وتيار جديد يستند إلى وصفة عياراتها مجربة.
ينسى أنصار هذه الرواية، أن الرواية عموماً لا تستبعد الهامشي في الحياة، وفي عالم الرواية أمثلة كثيرة، أهمها في العربية: رواية القاع. وإذا كانت هذه الرواية تريد الهيمنة على المشهد الروائي، ففي هذا إفقار له. مثلما كانت رواية الالتزام، تعمم رؤيتها للرواية، ناسية هي أيضاً أن الرواية بطبيعتها ملتزمة، وليس من الضروري بقضايا مشتركة. إذ المشترك يغفل غير المشترك.
في الرواية الهامشية، عودة إلى مقولة الالتزام، واستبعاد لغيرها، فالروائيون الجدد يستبعدون الرواية التاريخية، بزعم أنها تعيد كتابة ما كتبه المؤرخون، والرواية السياسية، لأنها ستقع في فخ الأدلجة ، والرواية التي تذهب إلى جغرافيا أخرى، بدعوى أنه يذهب إليها بالخيال من غير أن يرتادها بنفسه… ليبقى الروائي حبيس جحره المهمّش ويختفي الروائيون رواد المجهول.
إن أي تيار أو اتجاه أدبي يُجيّر الرواية لدعواه، ما هو إلا عودة إلى الالتزام بما يعنيه من تضييق على الرواية. ولن تحافظ الرواية على آفاقها المشرعة على الحياة والخيال والتاريخ والفرح والألم ومأساة الوجود… إلا تحت عنوان عريض ليس هناك سواه: الإنسان بجميع وجوهه وأبعاده، هو الهدف والغاية. لا ينبغي تقسيمه ولا تجزئته.
-
المصدر :
- المدن