جرى العرف، قبل سنوات، على إطلاق صفة الناقد الأدبي على الصحافي الذي يكتب في شؤون الثقافة، سواءً أخبارها أو التعليق على نشاطاتها، بعدما ترفّع النقاد المعروفون عن مواكبة النتاج الأدبي.
لم يعد الوقت يتسع لانهماكهم في ما يشبه الحراك، العمل الأكاديمي يستهلكهم. كما أن المشهد لا يُظهر علامات تحوّل ذات أهمية. بموجب هذا النظر، يتجاهلون أن التحوّلات عادة ما تكون بطيئة، تتقدّم بتؤدة شديدة، حتى إنها تبدو وكأنها لا تتحرّك، مع أن هذا الركود أفرز ضجيجاً، ولو كان مخادعاً، إلى حد طغى على ما يدور في كواليس الثقافة، مع أن مهمة النقد المجدية اكتشاف النسغ الحي في موات أسبغ على الحياة ادعاءات شديدة الزيف.
ما أدّى إلى تطوّع روائيين بالتنظير للرواية، ونقل تجربتهم إلى هواة هذا الفن وجعلها معياراً للرواية الجيّدة، إضافة إلى مبتكرات مشاغل تعليم الرواية، وكأن هناك رواية مثالية، مهما تنوّعت، يمكن القبض على عناصرها والنسج على منوالها، بينما امتياز الرواية أنها شخصية، وبالدقة ذاتية، ولا معنى لتبويب التجارب الروائية، بإخضاعها لتركيبة معينة تسحق ما يميزها عن غيرها.
” يحتاج الناقد إلى الخبرة أكثر من عدة نقدية جامدة غير مجربة”
وربما في أن يشوب قواعد الرواية، قدر من الغموض، ما يعزّز امتلاك الروائي حرية الانجذاب إليها للكشف عنها، أو التحرّر منها. وإذا كانت هذه المشاغل ناجعة، فلا يجب أن تتعدّى تشكيل الأرضية الكتابية لعالم أكثر غنى من أن تحتويه دروس وتعاليم؛ أي ألا يحول بين الروائي والاطلاع على التجارب الأخرى، يستفيد منها ولا يحاكيها، فالحياة مهنة الروائي، والرواية الوجه الآخر للحياة المعاشة.
انعقد الأمل على الجوائز في إطلاق الرواية، لكن النتائج كانت مخيّبة، والنقد يتحمل المسؤولية. غني عن البيان أن الناقد يحتاج إلى الخبرة أكثر من عدة نقدية جامدة غير مجربة. فجرى استسهال إطلاق أحكام، أضرّت بفن بدأ يشكّل ظاهرة إيجابية في حياتنا الثقافية؛ ما يرشحه ليعكس حالة الإنسان في منطقة ابتليت بأنظمة شمولية أخمدت الأحاسيس الإنسانية، والتطلعات الحرة.
لم تدع له سوى الرعب المسيطر، والبحث الدائم عن الخبز والأمان، بحيث بدت الرواية الطليقة اختصاصاً غربياً، فهي الباحثة في أمراض الذات والاغتراب والقلق والجنس والجنون… وكأنها ممتنعة على البشر الناطقين بالعربية، ولولا نجيب محفوظ لاعتبرت هذه المنطقة بلا عالم روائي يمثلها.
وكان لدور النشر الغربية موقف سلبي، فاختياراتها الانتقائية لا تعكس صورة عالمنا. المفارقة أن الغرب يريد من العرب كتابة الرواية التي تروقهم. وهذا ظاهر من تبنّي روايات معينة تلاقي نظرتهم إلى المنطقة، في الكتابة عن إشكالات لها الأولوية لديهم، أما إشكالاتنا ففات وقتها، لمجرد أنها لا تعنيهم.
أقدار الرواية العربية يتحكّم فيها متابعو الشأن الثقافي في الصحافة والمواقع الإلكترونية، والجوائز الاعتباطية، ودور النشر الغربية… إن لم يفرض الروائيون رواياتهم على هذه الجوقة، فلن تشهد ازدهاراً حقيقياً.
-
المصدر :
- العربي الجديد