تميّزت النشاطات الثقافية التي انتشرت في بلداننا بالقرن الماضي، سواء مهرجانات أدبية أو فنّية بالصخب الإعلامي، فتَرت في أزمنة الخصومات، واستقرّت بعد انتكاس الثورات العربية. ففي اللقاءات الأدبية الموسمية تُلقَى الخطابات والأشعار ويتبارى الأدباء في الظهور واعتلاء المنابر، يتسابقون إليها ويتنافسون عليها، ثم يتفرّق كلٌّ منهم إلى بلده، وفي حال وقوع خلافات بين بلدانهم، يحملونها على عاتقهم ويختلفون من جرّائها، لا يشعرون بالارتياح إلّا عندما يتصالحون، فيعود النشاط، وتعود الليالي المِلاح إلى سابق عهدها.
مهما تكاثرت وتنوّعت هذه الأنواع، كانت إجراءاتها منسّقة على نمط واحد، يلتقي فيها المشاركون أنفسهم يأتون من المطار إلى الفندق، ثم من الفندق إلى المطار، ليذهبوا إلى مهرجان آخر في بلد آخر، وتبدأ دورة جديدة، ليست إلّا مساهمة في الضجيج، لإرضاء السُّلطات بثقافة لا تكلُّ عن النشاط إلى حدود الغليان، إذا كانت الدولة بخير، فالأدب بخير، والعكس غير صحيح، فالأصل هو الدولة.
قد يبدو المثقّفون من خلال هذا الوصف بمنتهى الخِفّة، لكن الأمر ليس كذلك دائماً. كانت علاقة المثقّف بالسلطة تُعبّر أجلى تعبير عن قُدرته على صناعة ثقافة تقدّمية من طَرفه، بينما كانت من طرف السُّلطة تُعبّر عن ترويض المثقّفين. في ذلك الوقت اعتقد مثقّفون كبار أنّهم يستطيعون إيجاد منافذ لأفكارهم تُقنع الحاكم بها، على أساس التعامل معه ببراغماتية، من خلال التشديد على وقوف الثقافة وراء الدولة، فلُوحظ على سبيل المثال مثقّفون كبار في المؤتمرات يتنقّلون بين مجموعات من القوميّين واليساريّين لإزالة الخلاف على نقطة في البيان الختامي لإظهار تضامن المثقّفين، على أساس النجاح بتدبيج بيانات، يُسارعون للتوقيع عليها، بغية تسجيل موقف ما، على أمل إرضاء الحاكم واستغلاله، بينما كان يستغلّهم.
الثقافة لا تعدم الوسائل، ويجب على المثقّف ألا ييأس
هذه المُراوغة لا تدوم طويلاً، سرعان ما تسحب السُّلطة من المثقّفين ما يبدو حرّية إبداء الرأي، وإذا حاولوا التمرّد، فالسجون بانتظارهم، والمسافة قريبة جدّاً، فالحاكم هو نفسه السجّان. لو أنّ لدى المثقّفين الإدراك أنهم على طرَفي نقيض معه، لما خدعوا أنفسهم، فالبراغماتية هي الوجه الآخر للخنوع، ولا تزيد عن حجّة واهية.
تقوم الدولة على الأجهزة؛ الرئاسة والوزارات والإدارات والمؤسسات، المفترض أنهم جميعاً موظّفون لديها، ويحقّ انتقادهم من أكبر موظّف، وهو الرئيس، إلى أصغر موظّف في دائرة أو مؤسسة، شرطة أو جيش، ولا استثناء للمخابرات ولا حصانة. بينما الأمور على العكس تماماً، يحقّ لهؤلاء جميعاً اضطهاد المُواطن، وبالجملة المثقّفين أيضاً.
المثقّف ليس ضدّ الدولة لكنّه ينتقد الدولة، وعندما كان يُدافع عن القانون والثورة والعدالة الاجتماعية، إنما كان يُدافع عن نظام يدّعي بأنه يهدف إلى تحقيق العدالة والثورة الاجتماعية والقانون والتقدُّم… وإن أدّى بالشعب إلى السجن والقهر والقمع.
التعامل مع السلطة بحجّة التفاهم معها، خطر على المثقّف، ويفقد نفسه في حال لم يتّخذ منها موقفاً نقدياً، وإلّا لم يكن مثقّفاً، بل موظّف لديها، ولئلّا نخلط بين موظّف لدى السلطة، أي مثقّف السلطة، الذي لا يعدو سوى بوق لها يبرّر تجاوزاتها، والمثقّف خارج السلطة، الناقد لتجاوزاتها، لا المبرّر لها.
لن نفترض العمالة ولا البراءة لدى المثقّف، قد يُغرَّر به وتخدعه السلطة، وإذا اعتقد أنها راضية عمّا يدعو إليه، فلا يُمكن الاطمئنان إليها، ما دام أنّها تعتقد بأنها تُموّل نشاطه السياسي والإبداعي، والجرائد التي يكتب فيها. الخلاصة، تعتبر أنه يعيش من مكرُماتها، ومهما حاول، فهو يحتاج إليها، لأنها مصدر عيشه، ولا تبخل عليه بالأُعطيات. هذا حال المثقّف في زماننا، ما يجعل الخيانة مبرّرة، وكأنها قدر لا فكاك منه، إذا كان هذا خياره، لكنّها ليست أقدار الثقافة ولا خياراتها. فالثقافة لا تعدم الوسائل، ولا المثقّف ييأس.
-
المصدر :
- العربي الجديد