“الجريمة لا تفيد”، هذا القول كثيراً ما يتردد. لا يقال عبثاً، فدوريات الشرطة تذرع العالم نهاراً وليلاً، وآلاف المجرمين يساقون يومياً إلى السجون. العدالة لا تعرف النوم، ورغم ذلك الجريمة في ازدياد، أرقامها في ارتفاع مستمر، وأساليب المجرمين في تنوّع، ذكاؤهم يتحدّى ذكاء المحققين، آلاف الجرائم لم يقبض على مرتكبيها، أو لم يُعرف فاعلوها، مع أن أساليب التحرّي في تطوّر دائم، ومطاردة المجرمين لا تهدأ، القبض عليهم أصبح مضموناً مهما طال الزمن، لا ينجون من قبضة العدالة حتى بعد مرور عشرات السنين.
بالنظر إلى ما أُحرز من تقدم، يمكن القول، إذا كان العالم بخير فلأنّ الجريمة لا تُفيد. لكن العالم ليس بخير. ومقولة “الجريمة لا تفيد”، مسألة فيها نظر، ما دام هناك من يستفيدون، ولو كان هناك من يخسرون سنوات طويلة من حياتهم وراء القضبان، وربما حياتهم عقاباً على ما اقترفته أيديهم.
من جانب آخر، ولو كان فيه بعض الطرافة، يستوقفنا أنّ المستفيد الأكبر من الجريمة هو السينما، فالفن السابع جعل جلّ اهتمامه ينصبّ عليها، حتى بدا وكأنها اخترعت الجريمة، إن لم تكن تشجّع عليها، خاصةً وأن تزكية الجريمة، اتجاهٌ يعمل على تسويق ما يتمتع به المجرم من ذكاء وخفة ظلّ، فيغض النظر عن جريمته، وما درّته عليه شطارته من مال حلال أو حرام.
“مقولة “الجريمة لا تفيد”، مسألة فيها نظر”
قد يخطر لنا أن السينما أسهمت على الأقل في ترويجها، لا سيما وأنها تلعب دوراً خطيراً باستدراك تقصير المجرمين في التنويع، بابتكار جرائم جديدة. ولئلا نستطرد، نعترف بأن الفكرة مضلّلة، فالخيال على مدى التاريخ البشري، لم يستطع التفوّق على واقع ما زال المزوّد الأكبر للعالم بالجرائم، فقد تبرّع للسينما بعصابات المافيا الإيطالية والروسية… والمجرمين المتسلسلين، وجرائم الإنترنت، ولصوص البورصة والبنوك، والنصّابين والمحتالين والدجّالين، وجرائم الاغتصاب والخطف، والمجرمين العباقرة، والمهووسين بالجنس، والمختلين عقلياً الذين ينشدون الشهرة… قريحة الواقع لا تنضب، وكتّاب السيناريو يلهثون وراءه، يجنون إبداعاتهم من شروره، يختارون اللافت منها والمثير ولو بتقطيع أوصال الجثث وتهشيم الرؤوس.
أفسدت جرائم السينما ذوق الجمهور، أمسى مدمناً على حبس الأنفاس، واعتياد التشويق والمطاردات البوليسية وتطبيش السيارات والعشيقات الجميلات الغامضات… فلم تعد القصص الإنسانية ترضيه، باتت مملة، ولو استدرّت الدموع، تبدو بليدةً بالمقارنة مع أفلام العنف، ما اضطّر المنتجين إلى تطعيم الأفلام العاطفية بجريمة، أو بقدر من الشكوك والريبة والترقّب، ما يشدّ المتفرجين إلى شاشة تبثّ الرعب بقدر ما تهدر من دماء.
من سوء الحظ، أن الواقع الفاسد يفرز أساطين في فن الاجرام. رؤساء دول عظمى وغير عظمى، قادة مليشيات، قاطعو رؤوس، ضبّاط مخابراتيون، رجال أعمال، سياسيون، محلّلون عملاء، مثقفون مأجورون … يلعبون أدوار البطولة في ملحمة الحياة، فالجريمة هي الوجه الأقوى في التعبير عن مأساة عصرنا.
-
المصدر :
- العربي الجديد