يُعنى هذا المقال بالكلام عن الأخلاق المتعارَف عليها، تلك التي يدعو إليها المصلحون الأخلاقيون والمتديّنون والفلاسفة، تتجلّى في تلك النصائح التي نتلقّاها صغاراً في الأُسرة والمدرسة. إنها عن الأخلاق الشائعة والمفروغ منها، والمطلوب توافرها في البشر عامّةً، كعدم الكذب والابتعاد عن الأذى والنميمة والدسّ، وعلى علاقة بالخطايا السبع كالجشع والشره والكسل… وطبعاً التحلّي بالنزاهة والأمانة وغيرها من الخصال الحسنة.

ثمّة ملاحظةٌ لا يُستثنى المثقَّفون منها، فهم ليسوا فوقها، أو ليسوا بحاجة إليها، أو غير مطلوبة منهم. هذا لاعتقاد بعضهم أنّهم لا يستقون أخلاقهم من وازع ديني، بل من وازع ذاتي، شخصيّ وإنساني، لم يتوارثونها، ما يبيح لهم إعادة النظر فيها. مع أنّه من المفترض أنّها ليست من الصفات التي يترفّع المثقَّف عنها، وإن كانت الشواهد أحياناً تُحيلنا إلى مثقَّفين لا يخضعون لهذه الاشتراطات، فيفعلون ما يشاؤون دونما أخذها بالاعتبار، ويعترضون بأنّه لا يحقّ لأحد التحرّي عن توافرها أو عدم توافرها لديهم، لئلا تجعلهم مع الآخرين في المرتبة نفسها. أي أنّ للمثقّف الحرية في أن يكون إنساناً جيّداً أو سيّئاً، وتبلغ هذه الحرية أنّه قد يؤذي مثقَّفاً مثله لا يشاركه الرأي، فيلفّق له الاتهامات، ويبلّغ عنه السلطة في دولة شمولية، ويزعم أنّه ليس عميلاً لها، وإنما كدافع وطني أو قومي أو سياسي، وربما كان تطوُّعاً خيرياً، ما يرفع عنه اللوم.

لكن الأخلاق هي الأخلاق. والمثقَّف مهما بلغ به الشأن، ومهما كان انحيازه لآرائه السياسية وربما المثالية، فلن يكون عملُه هذا إلّا انصياعاً لنوازع مشبوهة بالحسد والغيرة، ولمصلحة شرّيرة، ولو حاول تجميلها. وفي ردع نفسه عنها، مأثرة تُحسَب له، ولو أنّ في تجنُّبها أمراً يجب أن يكون عادياً، ولا يُغفَر للكاتب أو المثقَّف أنّه إنسان، قد يخطئ أو يزل. لماذا؟ لأنه الأدرى بوضاعة ما يفعله.

يرفض بعض المثقّفين ربط أعمالهم بأي دافع أخلاقي، ويأنفون من مجرّد التلميح إلى الأخلاق، بزعم أنّهم ليسوا دعاةً للفضيلة، ولا زاهدين في الحياة، بل متكالبين عليها. الأخلاق للعوام فقط، وبالنسبة إليهم مضى زمنها، بمعني أنّ حساباتهم لا تنضوي تحتها، وإنما إلى الحقيقة التي لا يدركها غيرهم، حقيقتهم المتعالية عن المساءلة، وهي حقيقة خفية لا تعدم المبرّرات، فلماذا يأخذون بما أصبح بائداً، بينما لديهم اخلاقياتهم. عموما الذرائع متوافرة.

المثقَّف مثله مثل غيره، سواء كان كاتباً أو أديباً، قد يكون همُّه جمع المال بشتّى الطرق والأساليب، وقد يُشترى، ولا يتورّع عن الإيقاع بزملائه، والتحريض ضدهم. حجّته الممتازة هي أنّه مفكّر لامع أو مؤرّخ بارز… ما يعفيه من المحاسبة والمساءلة.

هل يصحّ الوثوق به؟ كعلاقة شخصية لا يمكن ذلك، قد يغدر بصديق، أمّا من الناحية الفكرية، فيُقال في الدفاع عنه، يصحّ الوثوق به، لأنّ الثقافة بالنسبة إليه مجرّد أداء عمل ما، قد يُحسنه أو لا يُحسنه. يزعم أنّه شغّيل ثقافي، وهو وصف راج فترة ما والتحق به الكثيرون، لعلاقته بالشغّيل المرْضي عنه في الأدبيات اليسارية، فوجد المثقّف في تلك الأيام ما يتزلّف به إلى البروليتاريا، فتقرّب إليها بصفته شغّيلاً، كبديل عن عامل مثقّف، وبذلك يماثل المثقّف الثوري، لكن على نحو نضالي، كلاهما شغيلة. ماذا إذا كان بخصوص قضية؛ هل يؤتمن عليها؟ طبعاً لاً، لمصلحته الأولوية.

لا تعني هذه المداخلة ألّا يكتب المثقّف من أجل الشهرة أو المال، لكن ألّا يسعى إليهما إلى حدّ اعتبار غيره أعداءً، يجب القضاء عليهم لإفساح الطريق له. هناك كتّاب مرتزقة يثمّنون نجاحهم بما حصلوا عليه من مال، وبما عملوا على اصطناعه من شهرة. يجب أن تستعيد الكتابة مجدها، فللكاتب كرامته. إنّ الوقوف الى جانب الحقيقة مكلف، كأن تخسر بلدك كي تكتب بحرية، هذا شرط؛ لن تستطيع الكتابة عن الحقيقة إن لم تكُن حرّاً.

لسنا وحدنا من ابتُلوا بهذا النوع من المثقّفين، بل العالم أيضاً، هذه الأنواع موفورة، فالأخلاق قيد. وإذا كان لا بدّ من فضحهم، فالسبب معروف، من السهل على هؤلاء التذرّع بالأخلاق نفسها لإخفاء نقائصهم.