من المتّفق عليه، أو يمكن التوافق حوله، أن النقد ليس مجرد تعليق على نص، بمديح أو بهجاء، إنه فاعلية ثقافية فكرية، وعلى ألّا يغيب عن الأذهان، أنه وبالضرورة فعل أخلاقي، وإلّا أهدرنا الثقافة والفكر. وكغيره من أدوات التأمل والتحليل، خاضع للمساءلة: متى يصبح النقد بناءً؟ ومتى يتحوّل إلى أداة هدم؟ ما الذي يجعل من الناقد شاهداً نزيهاً على الحركة الثقافية، ومتى يصبح معجباً متواطئاً، أو جلاداً محتالاً.

إن تموضع الناقد بوصفه سلطةً، يملك الحق في تقييم الكتاب وتقدير قيمته، لا يعني أنه يستطيع استغلال سلطته، فيرشّح كتاباً للقراءة بسبب علاقة صداقة أو منفعة تربطه بالكاتب، أو يسيء لكتاب بسبب ما يحمله من ضغينة نحو الكاتب، باعتباره يشكّل خطراً على ثقافة اعتادت النفاق والرياء، وهو الأسلوب الدارج في التعامل بين بعض المثقفين من الذين يتصدرون المشهد الثقافي، ويعتبرون النقد امتيازاً، يخوّلهم إصدار أحكام جائرة، قد تحمل اتهاماً سياسياً يحيل الكاتب إلى مشبوه، وربما إلى السجن، فبعض النقاد ليسوا أبرياء، ومثلهم من يدافعون عنهم بطرق ملتوية، باعتبار أن الصداقات حتّى السيئة يجب الدفاع عنها.

هذا ما يشكل أحد أبرز مظاهر النقد غير الأخلاقي. بالمقابل، يمكن تعريض الناقد بالذات إلى تقييم ثقافته وبواعثه، وما إذا كان ناقداً بالفعل، أو ما يشبهه أو لا يشبهه. فالنيّات الكامنة خلف النقد، يمكن كشفها، ولا يعسر إدراك اتهامات جزافية مجافية للأدب، وما تخفيه وراءها من تحامل وتجاهل واستخفاف مأجور… كم من المشاعر البغيضة كالغيرة والحسد تكمن أحياناً وراء مقال حول كتاب.

أخلاقية النقد أقرب إلى الالتزام بمنهج صارم من الإنصاف

إن تكاثر الذين يكتبون في الشأن الثقافي، خلق وسطاً ثقافياً إلكترونياً في وسائل التواصل، تصادفنا فيه تلفيقات في التنظير السياسي، ولا يعدم مثيلاً له في الجهل الثقافي، أنتج صحافة ثقافة المنافع والمجاملات والعلاقات العامة، والصداقات الانتهازية، دونما مؤهلات معرفية، طالما الهدف هو الترويج وحب الظهور.

أخلاقية النقد، أبعد ما تكون عن التملق والتواطؤ، وأقرب إلى الالتزام بمنهج صارم من الإنصاف. الناقد الأخلاقي لا يفرض ذائقته، في مجال لا يجوز أن يُعنى بتسجيل انتصارات وهزائم، وإذا كان ثمّة انتصار فهو إعلاء شأن الثقافة، واستيلاد المعنى، والانفتاح على النص. والمشاركة في جلاء المعنى، وفتح أبواب غير مطروقة للفهم، ويملك الناقد من الشجاعة الفكرية ما يدفعه لعدم التهاون في الدفاع عن الحقيقة.

في السنوات الأخيرة، صدرت مئات الكتب في الداخل السوري وفي المنافي والخيام، كان نصيبها من أغلب النقاد رميها بأنها كتابات تفتقد للفن الروائي، ساذجة وفجة، كتبها شبان أغرار. هذا الرأي النقدي جرى تعميمه من دون قراءتها، أو الاطلاع عليها، مع أنّها في أغلبها شهادات كتب معظمها من واقع آلام شخصية، تحت وقع تجارب قاسية كالسجن والحرب والتهجير والفقدان والتعرض للتعذيب والموت، كذلك محاولات روائية لجيل جديد طالع من عمق مأساة بلد عاش نصف قرن من الدكتاتورية، لا يعني أن حساسية التجربة تعفي الكاتب من النقد، وإنما هي فرصة للنظر إلى هذا العالم المكتوب بالدم والدموع.

ليس من العبث القول، إنّ النقد مهنة نبيلة؛ والمفترض في الناقد أن يحوز من الثقافة والعمق والنزاهة ما يؤهله لمهمة هي جلاء العمل الأدبي والدلالة على أسراره… وليس الاحتيال على القارئ إرضاءً لسلطة أو لأيّ جهة.