يبالغ أطراف النزاع في سورية في ايجابيات التدخل الروسي، فالنظام يعتقد أن الروس سيعيدون إليه سورية خالية من الأمريكان والجهاديين والمعارضة، ما يعيد إليه سلطاته كاملة غير منقوصة على شعب مستسلم تماماً. أما المقابل فمنح الروس عدة قواعد عسكرية واستثمارات مجزية، وانحياز كامل للسياسات الخارجية الروسية. بالتالي لن يبخل الروس على النظام ببعض المنافع الإضافية، كالدفاع عن سياساته الداخلية، وتكريس هيمنته، وتأهيله للعودة بحلة جديدة إلى المجتمع الدولي.
وإذا أخذنا بالاعتبار التعالق بين أنظمة الحكم والنشاطات المافياوية في كلا البلدين، ستشكل روسيا للعائلة الرئاسية الحديقة الخلفية لاستثماراتها الخاصة، بذلك تجد المافيا السورية منصة تمكنها من القفز إلى أوربا عبر زواريب التفافية ومسارب سرية، لكن ليس قبل أن تبلغ ثقة النظام بالروس حدودا آمنة، فالثقة بينهما مفتقدة، ويخشى كل منهما من نشوء علاقات مكلفة لا يمكن التراجع عنها، ولو تحكمت بها المصالح الاستراتيجية، الأغلب على حساب روسيا، وإلا من يلتفت للنظام الذي يبيع كل شيء من أجل مصالح ضيقة، فاليوم يبيعها للروس والإيرانيين، بينما هو على استعداد لبيعها للأمريكان.
يمكن للعلاقات الروسية السورية المناورة بوجود سيد الكرملين وتحت رعايته الشخصية، لكن ماذا لو ذهب؟ ستتعثر الشراكة، وتصبح استثمارات الروس تحت رحمة النظام، بينما استثمارات النظام تحت رحمة الروس، أي أن الحماية المفترضة والمتقابلة من الجانبين غير مضمونة. وإن كانت الكفة سترجح لصالح الروس، وتصبح مصالح العائلة الرئاسية رهينة الصديق الكبير، فالصديق الصغير ليس إلا بيدقاً في لعبة السياسة. لكن بالنسبة للعمليات المافياوية، فالأمر مختلف، لن تكون متعادلة، للنظام حصة، لكن أصغر من حجمه، فالروس جشعون، والنظام مخادع، مهما حاول سيدفع إتاوة لاستمراره على قيد الحكم.
أما المعارضة المتفائلة من الوجود الروسي، ومعهم قسم كبير من الموالاة، فاطمئنانهم إلى الوجود العسكري الروسي، يدفعهم إلى التشجيع على تمدده على الأرض السورية، كذلك في مجالات الاستثمار، خشية من الإيرانيين، وميليشياتهم المذهبية، ونوازعهم الدينية، وخلاياهم السرية، ومحاولاتهم المستمرة في اختراق المجتمع السوري بالمراقد والحسينيات ومواكب التطبير.
يشارك الموالون للنظام مع قسم ملموس من المعارضة الخارجية المحبذة للتواجد الروسي، تحت ذريعة تشكيل عامل أمان من التغلغل الإيراني، لن نتكلم عن المعارضة المتواجدة في روسيا والتي لا يمكن الفصل بينها وبين الروس، ولا تختلف عنهم، وإنما المعارضة المتفائلة بالتحرك الروسي المتوازن، فحسب وعودها أو ما توحي إليه بين فترة وأخرى، باتصالاتها بأجنحة من المعارضة الطامعة بأن يكون لها حصة في الدولة بعد انتهاء القضية السورية وسحبها من التداول العالمي، أن تظفر بموجب ضغوط روسية بالتواجد كمعارضة داخلية، وإدارة صراع لا يدور على الأرض، ويقتصر داخل أجهزة الدولة ومجلس الشعب، لكن عند تعيين حصتها، فالصراع خاسر محسوم سلفاً، فالمعارضة أو ما يشبهها ستكون مشلولة وخاضعة للأجهزة الأمنية.
ما يجب معرفته والاستدلال به، هو أن روسيا بلد غير ديمقراطي رغم الواجهة التي تشبه واجهة الدولة السورية إبان الرئيس الأب، دولة مستقرة، قائمة على النهب تقوم على حمايتها مافيات السلطة وانعدام القانون، لذلك لن يساعد القيصر بوتين على إقامة دولة ديمقراطية، ولا مظاهرها، بل دولة يقال إنها ديمقراطية.
لم تتبع روسيا سياسة الأرض المحروقة، إلا على أمل إنهاء الأزمة السورية بأسرع وقت ممكن، وتخليص العالم من قصة الثورات، بذلك تكسب رضا دول الشرق الأوسط المهدد بالقلاقل لو امتدت الثورة إليه، كذلك الديمقراطيات الأوربية لتنجو من جحافل المهجرين. لن تغامر روسيا بالخروج من سورية حتى بعد ضمان استثماراتها، إلا بأن تترك وراءها دولة تابعة لها، بنظام حكم مضبوط، كما كان مستقرا وآمناً لكن شكلياً، مع هامش من الحريات المراقبة، وبعض التنازلات غير الجدية في الجيش والأمن. بيد أن هذا الترتيب لن يمنح النظام الطمأنينة، فالأمن أولا وأخيراً لا مساومة عليه، مازال عند حساباته الأولى، أي تنازل يستجر مطالبات قد تضعفه.
المأزق الروسي، ارتباطهم بتعهد للأمريكان، لم يدخلوا سورية آمنين إلا برخصة منهم، وبدعوى القضاء على الإرهاب. أما أن يبقى النظام كما هو، فسوف يستولد الاحتجاجات، ويعتبر بؤرة جاذبة للإرهاب.
المشوار ما زال طويلاً، هذا ولم نعمل حساباً للإيرانيين الذين لا يغفلون عن مشروعهم الكبير في ضم سورية إلى التحالف الإيراني العراقي اللبناني، وفي انتظار الفرصة لإعلان الفشل الروسي ليحلوا محلهم.
ما موقف النظام؟ في الواقع، لا يأمن لأحد، ماض في تكديس الثروات بيد العائلة المالكة، وفي طريقه إلى المزيد من تجميع المنتفعين وأمراء الحرب ومافيات المخدرات والكبتاغون وتحويلهم إلى مجرد أعوان بخدمته، لا أكثر من عملاء مأجورين ومعهم أجهزة المخابرات، ينفذون إرادة العائلة المالكة.
يجمع بين الروس والإيرانيين هدف واحد، هو تكريس النظام بحالته السابقة، بينما من المستحيل العودة إليها، هذا التجاذب لن يؤدي إلا إلى محو بلد بكامله، فالدمار الذي حل به، كان من أجل بقاء العائلة في سدة الحكم. قد تستمر إلى حين، جهود الحلفاء ستخفق طالما أنها تتجه إلى تركيبة، مهما طرأ عليها من متغيرات، فلن تكون نظاماً قديماً أو جديداً، بل نظام مختلق لا يبشر بالاستقرار والأمان، وإنما بدورة جديدة من النهب والتسلط.
-
المصدر :
- الناس نيوز