هل كنتم تتوقعون اندلاع “الربيع العربي”؟

في الحقيقة، لم يكن متوقعا، لقد نفيت أكثر من مرة أن يلامس الربيع سوريا، وكان لدي أسبابي. لكنه اخترقها من أقصاها إلى أقصاها. وإذا كنت استغربت انطلاقته في تونس، لكن بعد مصر وليبيا بدا قدرا حتميا، ولم يعد ربيعا، بات عاصفة، وكان مقدرا لها أن تعصف بالمنطقة. لكن حراس الجحيم لم يكونوا غافلين عنها.

الأدب منذ عقود أكثر من توقعاته بشأن متغيرات لا بد أن تطال المنطقة بعد سقوط جدار برلين، كانت من قبيل التمنيات. لم يجر التنبؤ بالربيع العربي، كان مفاجأة أكبر من جميع التوقعات في اندلاعه وانتقالاته من بلد إلى بلد، كان أشبه بمعجزة تكررت بإصرار ودأب، وضع المنطقة والعالم أمام الأمر الواقع.
إلى أي حدٍّ تعتقدون أن الإبداع العربي لعب دورا -أو لم يلعب أي دور- في ذلك الربيع؟

من الصعب تقدير مدى مساهمة الابداع العربي، لكن -وللإنصاف- كان له تأثير بشكل غير مباشر، الشبان الذين ملؤوا الشوارع وحققوا انتصاراً كاملاً على الأنظمة، أغلبهم من شباب الجامعات المتعلمين المؤمنين بضرورة إسقاط الأنظمة الدكتاتورية، وهي مقولة كان الأدب يرددها ويحلم بها.

قلما تجد رواية أو قصة أو شعرا قبل هذه الثورات لا تنتقد الفساد، وتأمل بالحرية، وتناهض الأنظمة وتدينها، سواء جهرا ومباشرة، أو بشكل موارب ومبطن. كان إحساس الأدب بالأحوال المتردية واضحا لا لبس فيه، لا ندري إلى أي حد تأثر به الشباب…

الأدب لم يلعب دوراً مناضلاً كما في الثورة الفرنسية والروسية، كان دوره خفيا وإلى حد ما غير ملحوظ، كان إسهامه يكاد أن يكون معدوماً كسلاح فعال.
كيف تقرؤون موقف المبدعين العرب ومواكبتهم الربيع العربي؟

انبهر المثقفون. الحراك الشعبي فاق أقصى أحلامهم، بدا خارقاً، ثورة حقيقية، مهرجانا من المظاهرات والاعتصامات لم يسبق له مثيل. لم تكن الانتفاضات صنيعة جماعات من المتآمرين، ولا أحزاب تقليدية، أو حراك طبقة، أو جمعيات سرية. الشبان الذين كنا نعتقد أنه لا رجاء منهم أطلقوا الشرارة، وقادوا المظاهرات، والتحق بهم الشعب بكامل فئاته.

بداية، واكبها المثقفون، بالصمت والحذر، ثم اعتقدوا من فرط انتشارها وزخمها وعنفوانها، أن الحكومات مقبلة على الانهيار، ولن تصمد؛ بالتالي يجب أن لا يتغيبوا عنها، فأيدوا الربيع، وبعضهم ادعوا أنهم حرضوا عليه. وبعد نجاح الثورات بفترة قياسية، سارع الكثير من الأحزاب لاختطافها.

تجاوزت الثورة الأحزاب والمثقفين، وشكلت أكبر تهديد للأنظمة، كان شباب الثورة هم العدو الحقيقي للدكتاتورية، لذلك وجهت الأنظمة أجهزتها للقضاء عليهم، ودفعت قوى مخربة إلى التغلغل في الثورة، ونشرت المخاوف حولها. في تونس ومصر وسوريا حاولت القوى الإسلامية الهيمنة على الربيع، وتراوحت هذه القوى بين المعتدلة والمتنورة والمتطرفة والشديدة التطرف، مما أدى فيما بعد في سوريا -مع انتقال الاحتجاجات من طور سلمي إلى طور مسلح- إلى ظهور القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية.

المثقفون لم يدافعوا عن الثورة، وقفوا موقفا محايدا منها، وكان سلبيا، ثم مضادا. تذرعوا بأن الإسلاميين اختطفوها، ثم زعموا أنها سقطت في قبضة القاعدة. ووجدوا المبرر للدفاع عن الأنظمة لا عن الثورة، واتخذوا جانب الدكتاتورية.

بوسعنا التكلم كثيرا عن خيانة المثقفين، ومنهم يساريون وشيوعيون وليبراليون و”ثورجيون”، وسجناء رأي سابقون، وفنانون ركبوا المعارضة من قبل وانتفعوا منها، ثم تخلوا عنها. في سوريا، الوضع كان أسوأ، شاركوا في الدعاية لسحقها، واتهموا الربيع العربي بأنه مؤامرة كونية.

طبعاً لا يجوز التعميم على الإطلاق، استشهد كتاب وروائيون وقصاصون وفنانون. هناك الكثير من المثقفين ناضلوا، وما زالت أيديهم في النار، يحملون على عاتقهم أعباء التنظير للثورة بكل كفاءة، والرد على أعدائها.
بعد نشوة الربيع العربي، هل بدت لكم في الأفق بوادر الانكسارات؟ وكيف تقرؤون مآل ذلك الربيع حاليا؟


ظهرت مساهمة الإبداع العربي في جميع الفنون: السينما والمسرح والتلفزيون، الرواية والقصة والشعر، الفن التشكيلي والكاريكاتير… أصبح الإبداع ذا حساسية تتجاوب مع هذه المرحلة التاريخية وتعبر عنها، ويشكل الأرضية للمتغيرات القادمة في الواقع والمجتمع

مجرد ما استعادت الثورة المضادة مواقعها في مصر، وفتح النظام في ليبيا واليمن وسوريا النار على المحتجين، أصبحت المعركة غير متكافئة. كما أن الثورة افتقدت لقيادات منظمة. كانت المظاهرات والاحتجاجات عفوية، فسهل التغلب عليها، شبان دون خبرة سوى حماستهم وتضحياتهم وإيمانهم بالحرية والعدالة.

هذا لا يكفي لمصارعة وحش متمرس بالمناورات والأساليب الإجرامية، لديه أجهزة للقمع عمرها ما يزيد على أربعين عاماً. الحماسة غير كافية ولا الإيمان. سرعان ما انقلبت الأدوار، وتغلبت الدعاية، أصبحت الثورة إرهابية ومطاردة، والأنظمة القمعية تدافع عن الأمن والسلام المجتمعي.

بينما الناشطون لاجئون ونازحون في المغتربات، ومطاردون في الداخل من النظام والدواعش وأشباههم. الربيع انهزم، لكن له عودة، الطبيعة لا تستثني فصلا من فصولها.

على أي مدى (متوسط، بعيد،…) ترون أن أهداف الربيع العربي (الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والحرية) ستتحقق على أرض الواقع؟

من الصعب تحديد زمن دقيق. بحسب تقديري على المدى المتوسط، شعلة الثورة خفت وهجها، ولم تنطفئ، ستستعيد عنفوانها وأهدافها. لنعترف، حالياً نحن في جحيم، لكن الشعوب التي أدركتها الهزيمة أحست بطعم الحرية.

رغم ما حدث، تحققت خطوة صلبة نحو الأمام، وضعت قضايا كثيرة -الديمقراطية، الدولة المدنية، المواطنة، العدالة الاجتماعية، الحريات،…- على أرض الواقع، باتت أمورا تحت الطلب، ليس بوسع نظام ولا دولة التهرب منها. طبعا سوف تحاول الدكتاتوريات المراوغة والتلاعب فيها والتنصل منها.

الشعوب دفعت ثمنا باهظا ولم تكسب سوى إثارتها، وما زال الطريق مفتوحا أمامها. اليوم إذا كانت هناك مفاوضات ومؤتمرات، فهي لانتزاع حقوق الشعب السوري، والاعتراف بحقه في الحرية والكرامة، وحق “العودة”!! عودة النازحين إلى أراضيهم وبيوتهم، وجمع “الشمل”!! شمل العائلات والأحياء والأموات. حق زيارة الأهل لقبور شهدائهم، ومعرفة ما حل بجثثهم.

هل راكم الإبداع العربي ما يكفي من الرؤى والتصورات ليكون له دور ما في تحقيق تلك الأهداف؟

لا شك في أن المثقفين الذين تكونوا في الثورة، راكموا طوال السنوات الماضية قدرا كبيراً من الرؤى، وطرحوا الكثير من الأفكار على جميع المستويات. لم يُستثنَ شيء، الصورة الآن أوضح، لا للدكتاتورية ولا للتطرف الديني، كلاهما إرهاب.

ومن الطبيعي مساهمة الإبداع العربي في هذا الاتجاه، وقد ظهر في جميع الفنون: السينما والمسرح والتلفزيون، الرواية والقصة والشعر، الفن التشكيلي والكاريكاتير… أصبح الإبداع ذا حساسية تتجاوب مع هذه المرحلة التاريخية وتعبر عنها، ويشكل الأرضية للمتغيرات القادمة في الواقع والمجتمع.