نشهد منذ ما يزيد على عقد، تنكّر مجموعات من المثقفين لغالب ما اصطلح عليه من تسميات وتوصيفات رافقت تقلّبات القرن العشرين من ثورات وحركات وحروب كبرى، جاءت بداية القرن لتشكك فيها وتكشف عن عبثيتها وديماغوجيتها، لا سيما وقد استخدمت للتهييج والدعاية في بلدان الشموليات.

بعد قلب صفحة الفاشية والنازية، والشيوعية إلى حدّ ما، أصبح التعامل مع تذكاراتها بحذر، وإن بتشهير، خيفة أن تعود، فالشموليات قد تجدد شبابها، ما دام مأواها نفوس البشر الطامحة إلى سلطة مطلقة.

في المنطقة العربية، اقتصر استعمالها وما زال على الأنظمة العربية التقدمية في المظاهرات والمسيرات والقنوات الفضائية الرسمية. لكن خلافاً عن الغرب، كانت قائمة المصطلحات العربية طويلة، متنوعة ومتشعبة، أما الاعتقاد بها، فأحاطته التساؤلات، وكأمثلة عليها: الشعب، صراع الطبقات، فلسطين، الوحدة، الأمة، الحرية، النضال، المقاومة، الممانعة، الجهاد..

قائمة يشق حصرها، أصبحت حسب بعض المثقفين من مخلفات القرن الماضي، وربما لو جاراهم كتّاب المقالات السياسية المتحررون من اللغة المدعوة بالخشبية، واتفقوا معهم على تجاهلها، لما استطاعوا كتابة مقال واحد يخلو من هذه المفردات، التي حسب تقويمها الحداثي، إن لم تكن تالفة، فقد انتهى مفعولها، لعدم توافر معادل لها في الواقع.

” الإشكال ليس في المصطلحات، وإنما في أن الاستبداد استولى عليها”

وفي حال استعملت بالحماسة نفسها التي كانت لها في ما مضى، لبدت مستوحاة من عالم الغيبيات المحنطة، فالنضال بات استسلاماً، والتضامن تنابذاً، والعروبة لا عروبة، والوحدة فرقة، والمقاومة أكذوبة، والجهاد قطع رؤوس.. وهلمجرا.

ميّعت الحكومات العربية هذه التعابير، مع أنها دأبت على ترويجها في إعلامها المتعيّش عليها، يلغو بها، ويستثمرها بإفراط، فالأنظمة التي أعلت من شأن الشعب، زجّت به أفراداً وجماعات وأحزاباً في المعتقلات. وكانت نداءات دعم الفلسطينيين، دعوة إلى خنقهم وسد المنافذ عليهم. أما العروبة التي جيّروها للشعر، فباتوا يخجلون منها، ويسعون للانتساب إلى حضارات قديمة، لم يعد من شواهد لها سوى آثار، إن لم تنهب بعد.

الاقتراحات السابقة نتاج العبقريات الرثة المتحررة من إرث الماضي القريب والبعيد، والداعية إلى مجاراة الغرب بالتخلّص منها، وكأن وجود الشعب والجماهير والعروبة وغيرها، تكمن في المصطلحات، فإذا استُهلكت زال ما تعبّر عنه من الوجود، وكأن رطانة اللغة تعيد أمجاد العرب أو تبطلها.

الإشكال ليس في المصطلحات، وإنما في أن الاستبداد استولى عليها، واحتكر تمثيلها، وتصرّف بها، على أنها ملك له. فبات الشعب يحيلنا إلى قطيع أعمى، وحناجر تصرخ، وحملة لافتات وأعلام وشعارات. هذا هو الحال، ما دامت أنظمة المقاومة والممانعة، لا تقاوم ولا تمانع. أما الثورة، فلا أقل من مؤامرة كونية.

تفقد الكلمة معناها عندما تتناقض مع ما تدل عليه، وتصبح “الحقائق” تسويقاً للأكاذيب. إن المعنى لا يستعاد إلا باستعادته على أرض الواقع. وتبقى الحقيقة التي لا يستهان بها، أن الشعب ما زال، والحرية لا تزول.