لم تفتقر الثورة السورية إلى شهادات واقعية، وأيضاً تجارب شخصية، كذلك روايات تعتمد أحداثاً على الأرض من نزوح وقصف ورعب ومجازر ودمار. سجّلها الذين خرجوا من سورية، وتابعوا الكتابة عنها من الدول المجاورة، أو من المنافي البعيدة. توثيق مجريات الثورة مدين إلى شهادات من الداخل السوري.

يفتقد الأدب إلى الذين انحازوا إلى الحرية والعدالة، عندما لم يكن الجهر بهما مكلفاً، والمظاهر التقدمية تتطلبه.

أما بعد الثورة، فأصبح اللاموقف الضمانة المثالية للبقاء في قيود النظام وعلى قوائم المعارضة. ارتأى أصحابه حسب تنظير يتداوله بعض الكُتّاب والنقاد أنه لا يمكن للكتابة التطرق إلى حدث جارٍ، لم يستكمل عناصره بعد، أي لم يضع نقطة النهاية لفصول مازالت تتوالى.

إذ إن الحدث الذي شمل منطقة دُعيت قبل سنوات ببلدان “الربيع العربي”، كان من الممكن الحديث عنه بإيجابية، إذ بشّر بالديمقراطية المنشودة، لكن ليس قبل أن يستكمل تداعياته. وأن كل ما يمكن الكتابة عنه هو دراسته على مستويات عدة؛ سياسية واجتماعية وثقافية. غير أن الزمهرير الذي أعقبه، لم يسمح إلا بالإطلالة عليه.

” لا يخفي اللاموقف موقفاً صارخاً في انتهازيته”

وهكذا، فإن المثال السوري لا يشجع على الكتابة عنه إلا على أنه في مرحلة من مراحل أطواره المتبدلة نحو الأسوأ، فالربيع لم يعد ربيعاً، والثورة لم تعد ثورة. سورية تتحول إلى إمارات وإقطاعات وحواجز، ومناطق محررة وغير محررة. وجماعات تطمح إلى أكثر، فداعش جعلت من منطقة الجزيرة السورية جزءاً من دولة الخلافة. في هذه الحالة ربما لن يُكتب عن هذا الوضع روائياً إلا بعد عشرات السنين.

بالعودة إلى اللاموقف، نستعيد الأسماء التي تصدّرت على الدوام الصفحات الثقافية سواء بنشاطاتها أو بنتاجاتها الأدبية، لم تتوار عنها، بل حافظت على ظهوراتها، لا ترتضي غير الصدارة، وما زال لها كلمتها، تمارس أعمالها باحترافية بارعة لكن في تسجيل موقف “اللاموقف”.

إذا أردنا اللجوء إلى تفسير شائع بات مبتذلاً، فبعد سنوات من الحرب الشعواء، ما زالوا ينتظرون استقرار الأوضاع على منتصر، ليعلنوا مواقفهم الآمنة، ويكتبوا من موقع الغالب، عملاً بمقولة: التاريخ يكتبه المنتصرون.

لا يخفي اللاموقف موقفاً صارخاً في انتهازيته، يحفظ التوازن بين تاريخهم الذي عُرفوا به كمكافحين في صفوف اليسار، وفي ما بعد تراجعاتهم عن مقولاتهم الزاعقة في الحرية والعدالة.

يحاول أصحابه الإيحاء بموقف عقلاني، ينشد السلام والأمان، ويسجل موقفاً توفيقياً سنده أخلاقية مزعومة، تتجاهل مئات آلاف الضحايا، والموت تحت التعذيب، والجوع والبرد، ودمار مدن وبلدات وتسويتها بالأرض، عدا تشرّد الملايين في أرجاء العالم.

لا يمكن لأحد الكتابة بنزاهة انطلاقاً من موقف توفيقي أخلاقياً، حسب قول للكاتب دبليو. جي. سيبالد. إذاً لا غرابة في أن كل ما يفعلونه هو المراوغة. الكذب أحط أنواع المراوغة. أما الصامتون في الداخل، فصمتهم مقدس، فهم لا يكذبون، ولا يلامون، قوة بطش النظام لا تخفى على أحد.