يُحيلنا التطرّف إلى التعصّب بما هو ظاهرة معقّدة لا تستجيب للمنطق العادي. على عكس ما قد يُفترض، لا يتمسَّك المتعصّبون بأفكارهم ومعتقداتهم من دون استنتاجات عقلية رصينة، يتشبّثون بها، لا تقبل النقاش، إنها الحقيقة المُطلَقة، ولا قياس عليها. في هذه الحالة، يصبح من المستحيل عليهم أخذ أي منطق مختلف بعين الاعتبار، فيرفضون تلقائياً كلّ ما لا يتوافق مع قناعاتهم، فيعزلون أنفسهم في خانة لا تقبل التنوّع، أسرى لرؤية واحدة ومُحدّدة.
المشكلة في التعصّب ليست في الافتقار إلى المنطق، بل تكمن في الالتزام الأعمى بأيديولوجيات أو معتقدات لم تأخذ بالاعتبار مقتضيات الواقع، وإعادة صياغة العالم وفقاً لرؤية خاصّة، لهذا يبحث المتعصّبون باستمرار عن مبرّرات تؤكّد صحّة أفكارهم، من دون أن توضع على محكّ التجربة. مع هذا يبدو تفكيرهم متماسكاً ظاهرياً، لكنه في العمق متصلّب وغير قادر على التفهّم.
في هذا السياق، يُصبح التطرُّف نوعاً من الإفراط في العقلانية، وليست شدّة تماسكه إلّا في محاولته فرض منطق صارم على واقع متحرّك ومتجدّد، لا يستطيعون مجاراته، في حين يُفترض أن يكونوا أكثر مرونة وليونة. فالتفكير العقلاني السليم يتطلّب قدراً من الانفتاح على الآراء المختلفة، أمّا التفكير المتطرّف فيتّسم بالانغلاق على نفسه. من هنا، يغدو التطرّف محاولة لتحصين الأفكار ضدّ أي تحدٍّ أو تساؤل، ما يؤدّي إلى اغترابه عن المجتمع.
جعل الانتماء إلى المجتمع أكثر إغراءً من الهويّات الضيّقة
لكن كيف يتحوّل التفكير العادي إلى تطرّف؟ الحقيقة أنه لا يحدث فجأة، بل هو عملية تدريجية تتضمّن سلسلة من الخطوات الصغيرة التي تبدو معقولة كلٌّ منها على حدة. يبدأ الأمر بتبنّي أفكار بسيطة ومنها إلى معقّدة، ثم تتحوّل هذه الأفكار إلى قناعات راسخة مع مرور الوقت. ودائماً باتجاه اليقين المُطلق، ما يجعلها مؤهّلة لتفسيراتٍ شاملة ونهائية لكلّ ما يحدُث من حولنا.
في هذه المرحلة، يُصبح الفكر المتطرّف أكثر جاذبية لأنه يُقدّم إجابات قطعيّة تُزيل الشكوك والارتباك. ويجد الفرد في هذه الأفكار ملاذاً من الحيرة والتردُّد، يُصبح مستعدّاً للدفاع عنها بشراسة، حتى لو تطلّب الأمر تبرير العنف أو الإقصاء. وهكذا، يتحوّل من شخص عاديٍّ إلى متعصّب لا يرى في العالم سوى الأبيض أو الأسود.
تجمَعُ السوريّين اليوم همومٌ مشتركة، بينما يعيشون في جُزر منفصلة تضمّ مجتمعات صغيرة متباعدة، يحملون قناعات متناقضة، لا تشكّل جسوراً للتفاهم بقدر ما هي ساحات للخلاف، إن القدرة على جعلها مساحات للنقاش، يُحقّق خطوات على طريق تغيير كلّ جماعة، بينما تشبُّث كلّ طرف بموقفه يهدّد بتحوّل الخلاف إلى قناعات غير قابلة للمراجعة. وفي الاستمرار على هذا المنوال، تُصبح القناعة مصدراً للتعصّب، ويغدو العالم الخارجي مُعادياً لكلّ ما يتعارض معها، ما يعزّز رؤى متطرّفة وثنائية للعالم: الصواب ضدّ الخطأ.
إذن، كيف يُمكن مواجهة التطرّف؟ تكمن الخطوة الأولى في الاعتراف بأنه ليس نتيجة جهل أو ضعف عقلي، بل هو نتيجة لمنطق مغلق وعقلاني. ومن هنا، يتطلّب التصدّي له فتح قنوات الحوار، وتقديم رؤى بديلة أكثر شمولاً ومرونة، تُتيح للفرد رؤية العالم بألوانه المتعدّدة، وليس فقط من خلال ثنائية الصواب والخطأ.
يحتاج المجتمع السوري إلى تعزيز قيم التسامح والانفتاح الفكري، وتشجيع التفكير النقدي الذي يسمح بمراجعة القناعات وتطويرها باستمرار. بهذه الطريقة، يمكن الحدّ من جاذبية الفكر المتطرّف، وجعل الانتماء إلى المجتمع الكلّي أكثر إغراءً من الانعزال في هويّات ضيّقة، تؤدّي إلى التطرّف، سواء كان الديني أو العلماني واليساري والليبرالي، ويشمل أيضاً التعاطي مع الديمقراطية من خلال عدم النظر إليها على أنها بنودٌ جامدة تُفرض على الواقع، وإنما بنودٌ تتحرّى الحقيقة، موضوعها البشر والمستقبل، دون الوقوع في فخّ الانقسام.
-
المصدر :
- العربي الجديد