حتى الآن ربح النظام السوري معركة: الاستقرار أو الفوضى، واختار مقايضة هذه بتلك. فسورية اليوم تخضع لفوضى لا مثيل لها، تشرف على إدارتها أجهزة الأمن بكفاءة وشراسة ملحوظتين، بتعميمها في أرجاء البلاد من غير ضابط ولا موانع، أي كما تنبغي عليه الفوضى الممنهجة الشاملة أن تكون. نتائجها على الأرض لا تخطئ، اعتقالات ومداهمات وخطف واغتصاب، وقتلى مجهولي الهوية، وإعدامات ميدانية، وخراب في طول البلاد وعرضها. على الطرف المقابل ثورة مسلّحة أحد مظاهرها انفلات أمني، تعجّ بمخالفات وانتهاكات بسبب وبلا سبب، وتبدو أحياناَ غير مفهومة. حالة استغّلتها عصابات السلب والنهب بتجاوزات لا تقلّ عن جرائم الشبيحة، فهي مثله تنهب وتقتل وتخطف مقابل فدية.
الفوضى حرّكت الحنين إلى زمن الاستقرار، والتطلّع إلى استعادة ماض قريب كان فيه الأمان نعمة. غير أن حالة الاستقرار أمست خيالية من فرط ما أمعنت في الابتعاد عن نشاز أصوات قصف المدافع والصواريخ، وتساقط القتلى بالعشرات والمئات، وانتشار الحواجز والجنود المدجّجين بالسلاح، وتكاثر طوابير الرجال والنساء والأطفال أمام الأفران ومحطات الوقود ومراكز توزيع الغاز، طوابير تمتد مئات الأمتار، وقد لا يحصل الشخص بعد ساعات طويلة من الوقوف في البرد تحت المطر والثلج على ربطة خبز، أو عشرة لترات من المازوت.
لم يعد بوسع السوريين أن يحلموا إلا بتأمين حاجياتهم الضرورية، والنجاة من صاروخ تطلقه طائرة “ميغ” تحوم في السماء، أو انفجار سيارة مفخّخة مركونة إلى جانب الرصيف. رجاؤهم أن يساعدهم الحظ وحده في الإفلات منهما. لكن الحظوظ معدومة، وموت المصادفة لا يحتاج إلى مصادفة. التسليم به أمر لا مفرّ منه بعدما هيمنت الوساوس على الحياة اليومية وفاضت بها، لا يخفّف منها إلا الإيمان بالقضاء والقدر. أما الموت الآخر، الدارج بكثافة تحت التعذيب على الهوية المناطقية والطائفية، أو لنشاطات إغاثية، فقد تراخت إثارته المرعبة من كثرة ما بات مألوفاً. ورغم أنه أمسى طبيعياً، ما فتئت وحشيّته تؤجّج الهلع والأسى، إذ يستحيل الاعتياد عليه.
إذا كان ما ظفرنا به من استقرار وأمان حقيقياً، فقد كان على حساب مجازر حماة وحلب وجسر الشغور… وإعدام السجناء بالجملة في سجن تدمر، وسَوق أرتال المشتبه بانتمائهم إلى الأخوان المسلمين إلى المشانق في السجن نفسه، وتعذيب المعتقلين دونما رحمة في الفروع الأمنية وأقبية المخابرات، ومنهم من لاقى حتفه فيها، إضافة إلى أولئك الذين قضوا زهرة عمرهم في السجون، وعذابات أهالي المفقودين ودموعهم، والذين أطلق سراحهم بعد زمن يقدّر بالعقود، وقد ابتلوا بعاهات وأمراض مزمنة، ومصائب الناس الذين نهبت أراضيهم وانتزعت لقمة العيش من أفواههم، وعاشوا على هامش العيش.
كلاهما لم يكن حقيقياً، الاستقرار كان زائفاً والأمان كاذباً.
وحتى في فترات الاستقرار الآمنة، كان بوسع عنصر في المخابرات أن ينتزع أي مواطن من فراشه ويقتاده بملابس النوم إلى أحد الفروع، ويلفّق له تهمة ما، لا ينجو منها، إلا برشوة تعادل ما جناه طوال حياته. واليوم مضى ما يقارب السنتين، وسورية تدفع الثمن، ولا يعلم إلا الله ما الذي سوف يدفعه السوريون في الشهور والسنوات والعقود القادمة، لقاء ذلك السبات المخزي الذي رزحوا تحته أربعة عقود.
مآسي الثمانينات والتسعينات ما زالت في الذاكرة؛ السوريون لم ينسوا، صمتوا بموجب قانون الخوف، لئلا يطالهم قانون القمع. إذ لا أمان ولا استقرار إلا مع الخوف والصمت.
هذا ما ادّخره النظام للشعب: أي احتجاج مصيره السحق. أما معادلة الأمان والاستقرار، فأصبحت حسب ترجمتها الأخيرة: الأسد أو نحرق البلد.