في المشهد الأول للعمل الروائي الأول لفواز حداد، والذي استفتح به عالمه الأدبي في عام ١٩٩١ (رواية موزاييك ٣٩، دار الأهالي)، نقرأ عن امرأة تركب عربة تجرها الخيل، تبحث عن صاحب محل عطارة، كي يدلها بسحره على شاب وقعت في غرامه، ولا تعرف عنه شيئاً، ولا حتى اسمه، هنا نقرأ عن أحياء وأماكن، مثل الدرويشية، وعن محلات العطارة، وباب الجابية، وأحياء دمشق القديمة بكل ما نحمله لها من نوستالجيا، ثم نتابع الرحلة معه في تلك الرواية عبر التاريخ السوري الحديث، عن النضال من أجل الاستقلال، عن الشخصيات السياسية التي شكلت بكاريزميتها تاريخنا السوري المعاصر.

أما في أحدث عمل روائي منشور له عام ٢٠٢٣ (جمهورية الظلام، دار رياض الريس)، فتبدأ في الفرع ٣٣٣ بمشهد عن تعذيب معتقل، لإجباره على الوشاية بأصدقائه، يتعرض هذا المعتقل لأقسى أشكال التعذيب حتى الموت، ثم يأخذنا الكاتب بعدها بجولة جهنمية في أقبية الاعتقال، لنرى الموت والعنف بأقسى أشكاله، فلا نكاد ننهي الفصل الأول بهذا العمل الروائي الضخم، إلا وحالة من السواد تسيطر على أرواحنا.

تحولات طرأت
تشكل المفارقة بين هاتين الافتتاحيتين، جوهر تاريخنا السوري، وما أصابه من تغيرات تمس بنيته كلها، وتعكس أيضاً التحولات التي طرأت على أدب فواز حداد، وانتقال اشتغاله الروائي من دمشق وتاريخها وسحرها، وقصص عشقها التي تابعها في أعماله اللاحقة (تياترو ٤٩، صورة الروائي)، إلى دمشق أقبية الأمن والاعتقال، دمشق التشبيح، وانهيار الحياة المدنية فيها بكل معالمها، وانحدار للحياة الثقافية التي وصلت حالياً إلى الحضيض، ووصف فواز في رواياته هذا الهبوط الذي عاشه الوطن السوري بكل جوانبها، وكيف وصلت الحالة إلى الواقع المزري الذي نعيشه.

لم يكن فواز حداد في كتاباته معارضاً فقط، فهو بالنهاية ليس سياسياً أو ناطقاً رسمياً باسم حزب معين، بل بذل كل جهده ليفكر ويحلل ويفهم، وأن يرسم شخصيات رواياته المؤيدة والمعارضة بكل حيادية، بل وأن يمنح صوتاً وفلسفة حياة، حتى للشخصيات التي ساهمت في هذا الانحدار، فلم تأتِ شخصياته على شاكلة الخير المطلق والشر المطلق، كما نرى في الكثير من الشخصيات الروائية في هذه الأيام، بل جاءت في معظمها مركبة ومعقدة تعقيد الدوافع والغرائز ذاتها، (لنتذكر رواية المترجم الخائن مثلاً)، ولكي أشرح أكثر عن طريقة رسم الشخصيات تلك في رواياته، سألقي الضوء على شخصية مثقف السلطة، كما جاءت في أعماله، وسأركز تحديداً على رواية جمهورية الظلام، باعتبارها الرواية الأحدث، والتي اهتمت بهذا السؤال بشكل شبه أساسي، من خلال سيناريو تأسيس فرع أمني خاص للمثقفين، هو الفرع رقم ٦٥٠.

الفرع ٦٥٠
قصة الفرع ٦٥٠ في رواية جمهورية الظلام بكل بساطة، أن النظام أراد مراضاة (أم جميل) صديقة والدة الرئيس وابنة ضيعتهم؛ لأنها فقدت كل عائلتها “فداء للوطن”، ولأنها الصديقة المقربة لوالدة الرئيس، قرروا إنشاء فرع يكون فيه ابنها جميل هو رئيسه، وجميل هذا شخصية مثالية وبسيطة جداً، وتحمل قيماً عالية جداً، هو رمز لابن القرية النظيف، الذي لم تلوثه السلطة، رغم وجود أهله في صلبها، وهي لفتة جميلة من فواز حداد، إظهار هذه الشخصية التي ظلمت كثيراً روائياً ودرامياً، لكن عودة إلى موضوعنا الأصلي، يصبح جميل هذا رئيس فرع، مهمته الإشراف على الأدباء والمثقفين في سوريا، هنا يظهر استهتار النظام وأركانه بكل المفكرين والأدباء، لدرجة أن السيطرة عليهم، لا تستحق أكثر من فرع بلا عمل؛ لأنهم أصلاً تم السيطرة عليهم، (ومن يعارض فقد رحل وأصبح بالمنفى).

نقرأ هنا عن ثلاثة أشكال من مثقفي السلطة، تظهر على مشهد الأحداث تباعاً، بدءاً من الشخصية الأكثر بساطة والأكثر تواجداً في الساحة الثقافية السورية، والتي ربما لا تستدعي إلا بضع صفحات للكلام عنها، ثم الأعقد، فالأكثر تعقيداً، والتي يأخذ رسمها الجزء الأكبر والأكثر صعوبة للفهم.

ثلاثة نماذج بمستويات مختلفة
الشخصية الأولى: هي الشاعر المخبر مسعود سعدي، جاءت بكل ما يحمل المثقف المخبر من حقارة وسفالة، همه فقط كتابة التقارير في بقية المثقفين، كي يأخذهم خلف الشمس، هو بلا أخلاق ولا يحمل أي ذرة ضمير، يسعى دوماً للتقرب من رؤساء أجهزة المخابرات بكل تذلل ومهانة، وهم بدورهم أيضاً لا يحملون له أي احترام أو مودة، مستعدين دوماً لدوسه تحت أرجلهم، هي أحقر أشكال المثقفين، وأكثر أشكال العلاقة مازوخية مع رؤساء الأفرع الأمنية، تافهة، ضحلة ثقافياً ومدعية، هي شخصيات موجودة للأسف بكثرة داخل الوسط الثقافي السوري، (وكم أود أن أذكر بعضهم، لكن سأكبت هذه الرغبة بكل أسف).

الشخصية الثانية: المحقق سامر السفان، قارئ الكتب النهم، والعاشق للأدب والقراءة، لكن ظروفه ومصيره يدفعه ليصبح محققاً في واحد من أحقر أفرع المخابرات، يقبل هذا المصير، ويحاول أن يخفف قليلاً من العذاب عن بعض المعتقلين، وأن يبذل جهده كي يعمل وكأنه في دولة محترمة، لم يعارض رغم نفوره من النظام، بل هو أحد زبانيته بأحد الأشكال، لكنه يحاول ما بوسعه لكي ينقذ الآخرين، شخصية طيبة أساساً، فيها خير فطري، لكن الظروف وضعتها في اختبار قاسٍ، ليس لديها القوة النفسية لمواجهة هذا النظام أو للثورة عليه، شخصية سلبية نوعاً ما، تحاول أن تبذل ما في وسعها لصنع الخير، لكن بشرط أن تبقى مع التيار، فهي أضعف من السباحة عكسه، تعيش آلامها، وتأنيب ضميرها بكل ضعف، والسلطة تدرك ضعفه، بل وتفهم جيداً مفتاح شخصيته؛ لذلك تلك الشخصيات لا تخيفها أبداً، بل يمكن تسليمه بعض أسرار الدولة دون مخاطرة، فتأنيب الضمير لن يتحول يوماً ما إلى عمل.

الشخصية الثالثة والأكثر تعقيدا: هي شخصية عارف المفوض، ذلك الإنسان الذي يعتمد عليه صديقه مسؤول القصر، كي يشرف على تثقيف المقدم جميل، أو بمعنى أدق كي (يخلصه) من طهرانية ابن القرية هذه، ويجعل منه مثل (باقي مثقفي السلطة) بلا إنسانية ولا ضمير.

عارف هذا مثقف، يكتب في المجلات والجرائد، ومعروف في الوسط الأدبي المحلي، بل وحتى العربي، هو أيضاً جزء من الآلة الإعلامية للنظام، ويرتبط بصداقة مع (عظام الرقبة)، لكنه غير موافق على إجرام النظام. هذا الرأي لم يجعل منه معارضاً، بل ولا حتى حيادياً، بل بقي مع النظام، ويستفيد من التعامل مع السلطة وعلاقاته معها، لديه أيضاً ضمير وأخلاق، لكن لديه أيضاً جشع، وقدرة على إسكات ضميره، لكي يستفيد من مزايا السلطة، يرغب في ترك كل شيء، وعيش حياة هادئة في القرية مع حبيبته، لكنه عاجز عن اتخاذ هكذا قرار.

شخصية عارف فعلاً إشكالية ومركبة، فلا نستطيع القول إنه ذو نزعة أخلاقية، لكنها أيضاً ليست شخصية شريرة، ربما يكون (معدنه نظيفاً) أيضاً، مثل المحقق سامر، لكن الظروف أيضاً وضعته في بلد نظامه، لا يترك مجالاً أبداً للمعادن النظيفة أن يكون لها دور، ومن اللافت للنظر، أن للشخصيتين المصير نفسه، فكلاهما يترك العمل مع السلطة، ويتوجه كل شخص لبيته، لكن لم يكن هذا الفعل بقرار ذاتي، بل السلطة هي من تخلت عنهم، أي أنهم بقوا سلبيين حتى اللحظة الأخيرة.

الاهتمام بالفكرة أكثر من الحكاية
إذن رسم فواز حداد شخصية مثقف السلطة بكل حرفية وعمق، وأعطى لكل منها ما تستحق من تأمل وتحليل، لكن ما آخذه على هذا العمل، (وبعض أعماله الأخرى)، هو هذا الخلل (حسب رأيي وذائقتي طبعاً) الذي أصاب معظم الروايات العربية المعاصرة، وهي التنظير والاسترسال في الأفكار والكلام الإنشائي، أحياناً يأتي على لسان أحد الشخصيات، فيعطيها مساحة أكبر مما تحتمل، مما يشتت التركيز، ويكون غالباً على حساب النص ذاته، ومتعة قراءته؛ ربما لأن معظم الروائيين في أيامنا هذه يهتمون بالفكرة أكثر من الحكاية، ولأن فواز حداد يريد أن يعطي للاثنين المساحة الملائمة؛ لذلك جاءت أعماله في معظمها ضخمة نوعاً ما، وربما أصابنا بعض الملل في بعض أماكن النص، لكن العمل بمجمله غالباً ما يكون ممتعاً وشيقاً وبلغة راقية. وبالنهاية، فإن لفواز حداد مكانة مهمة في الرواية السورية، بل والعربية، ولن تكتمل رؤيتنا لتطور تلك الرواية دون قراءة أعماله.