ما جرى أخيراً في فرنسا، وما قد يترتب عليه في عموم بلاد الغرب، لن يمر بسهولة. ما نجم عنه يفوق الاحتمال في المعيار الغربي، لا الشرقي. فالغرب يثمّن ضحاياه، ومقتل 12 شخصاً، من بينهم رسامو كاريكاتير، خسارة فادحة لا يستهان بها.

ذهب هؤلاء ضحية حرية التعبير التي تكفلها قوانين الغرب. غير أن المأساة تكمن في أن القوانين لا تحمي من القتل ولا من التهور، وسوف تنعكس على ملايين المسلمين، ليس في فرنسا فقط، بل في عموم أوروبا، ولو أنهم أدانوا المذبحة.

المناخ المسيطر على الشارع الأوروبي، على الرغم من لافتات “كلنا شارلي”، هو عدم التسامح. فاليمين الأوروبي المتطرف في تصاعد مستمر، يستغل فشل الأحزاب الرئيسة في إيجاد حلول للبطالة والكساد الاقتصادي المتراكمين منذ سنوات.

ذلك ليس وليد الجريمة الأخيرة، بل وليد عنصرية تستثمر غلوها في الإساءة إلى الإسلام، بإفلات العنان لعلمانية شرسة ترسم حدود ثقافة المسلمين، وترمي إلى استفزازهم، فتمنع بناء المساجد، وتتعسف في فرض قانون الحجاب، ما دفع بعض المحللين إلى تفسير التعنت الفرنسي إزاءهم، بأن فرنسا لم تغادر حقبة استعمارها للجزائر بعد.

“ما يحدث ليس وليد الجريمة الأخيرة، بل وليد عنصرية تستثمر غلوها في الإساءة إلى الإسلام”

العداء للمسلمين تبدى أخيراً بالتركيز على رواية “خضوع” (أو “استسلام”) للروائي ميشيل ويلبيك، بتحويلها من حدث أدبي، مهما كان شأنه أو مستواه، إلى حدث سياسي بامتياز، يحذر فيه المؤلف من أسلمة فرنسا، من خلال تخيّل رئيس جمهورية مسلم في فرنسا عام 2022. هناك من دافع عن الرواية بأنها لا تعدو الخيال. لكن ماري لوبين، رئيسة حزب “الجبهة الوطنية” اليميني المتطرف، حذرت من أن “تخيلات ويلبيك قد تصبح حقيقة يوماً ما”.

لا يخفي ويلبيك تحيّزه. ففي روايته “بلاتفورم” (2001)، أظهر المسلمين على أنهم أناس جهلة لا يحترمون القوانين، ووصف الدين الإسلامي بأنه “أغبى ديانة” و”خطرة”. ولم يوفر الشعب الفلسطيني من الإهانة. بعض النقاد خففوا من تحريضه للرأي العام ضد الإسلام والمسلمين بالقول إنه لا ينبغي إعطاء أهمية لما يكتبه لسبب واحد وهو “أنه ليس كاتباً سياسياً، بل يتفاعل مع المجتمع بتلقائية”.

كراهية ويلبيك للمسلمين مادة لصناعة شهرته بين أوساط يمينية. وما يسوقه بشعبوية فجة، يشكل أعذاراً لرفض ثقافة الأقليات. فالمبيعات القياسية التي بلغت أكثر من 200 ألف نسخة في أيام، دليل على تجاوب جمهور كبير مع رعونة ويلبيك التي لم تقلقهم.

نعم؛ حرية الرأي مقدسة، لكن للحرية حدوداً، هي حياة البشر. وإذا شاء الغرب حرية بلا حدود، فأخطارها من الصعب التنبؤ بها. أما إذا أريد لحرية الرأي أن تكون فاعلة، لا فالتة، فلا ينبغي أن تترك للأهواء والصرعات والضغائن، فهي بتشابكها مع ثقافات مختلفة، ينبغي أن تأخذ بالاعتبار أنه لا يمكن محو ولا استيعاب، ولا حتى التفاهم والحوار، بين ثقافة وأخرى بالحطّ من المقدسات، لئلا يصبح العنف مادة للرد، والعنف المضاد مادة للدفاع عن النفس.